منير شفيق
تعوّد الفلسطينيون تاريخياً أن يربطوا مواجهتهم، ضد عدوهم الصهيوني، ومن قبله ضد الاستعمار البريطاني 1917-1948، بحالة الوضع العربي. وذلك في قرارات التصعيد في المواجهة، أو تخفيضها.
وتشكلت تلك العلاقة عبر تجارب كثيرة في الصراع. وقد اشتهرت مثلاً تهدئة ثورة 1936-1938 بنداء من دول عربية،وعدت الثورة بتلبية مطالبها، بناء على وعد بريطاني من "صديقتنا بريطانيا" بذلك.هذا وساد رأي بين الفلسطينيين بعد النكبة (قيام دولة الكيان الصهيوني واقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني من قراهم ومدنهم)، بأن السبب هو خيانة الأنظمة، أو تقاعسها، أو ضعفها. أي حُملت المسؤولية، بصورة شبه كلية، للوضع العربي.
ووصل الأمر ما بين 1949-1964 إلى أن تركز الجهد الفلسطيني كلّه لدعم حركات التحرير أو التغيير العربية، لتبدأ عام 1964 بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية مرحلة النضال الفلسطيني، من جديد، في مواجهة القضية الفلسطينية مباشرة. ولكن كان واضحاً أن الانتقال إلى هذه المرحلة قد تم بقرار عربي. بل بتدخل عربي مباشر في تحقيقه. فكان قرار م.ت.ف، عملياً، بيد مصر.
واستمر ذلك إلى ما بعد حرب 1967 التي وَجَّهت ضربة قاسية للوضع العربي، ولا سيما مصر، الأمر الذي أعطى للدور الفلسطيني الذاتي دوراً أكبر، وذلك بإعادة تشكيل م.ت.ف لتصبح قيادتها فصائلية (فصائل المقاومة بقيادة حركة فتح).
لقد راح الدور الفلسطيني يتعاظم كلما ضعف حال الدول العربية. فبعد معركة الكرامة مثلاً كان الوضع العربي بحاجة ماسة إلى تعظيم المقاومة الفلسطينية لتحمل كتفاً في مواجهة الهزيمة العسكرية 1967، وفي مقاومة احتلال الأراضي العربية: القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة، وسيناء، والجولان.
إن الدور الفلسطيني تعاظم عمَّا كان عليه من قبل، وأصبح له مكانة خاصة في نظر الرأي العام العربي والإسلامي الذي هزته الهزيمة العسكرية 1967 هزاً معنوياً شديداً، من حيث سلبيته، إزاء الأنظمة العربية، كما من حيث إيجابيته في تعليق آمال على المقاومة.
المهم بالنسبة إلى موضوع هذه المقالة أن المرحلة الممتدة من 1968 إلى أول التسعينيات اعتمد الوضع الفلسطيني في المواجهة مع الكيان الصهيوني، تصعيداً أو تخفيضاً، على الوضع العربي، والبعض أصبح يضيف على الوضع الدولي من أجل الترويج للتحالف مع الاتحاد السوفييتي.
وقد ذهب كثيرون، بحق وبلا حق، إلى اعتبار كل التراجعات الفلسطينية التي أقدمت عليها فتح وم.ت.ف وصولاً إلى اتفاق أوسلو، تعود إلى ضغوط عربية، أو تأثيرات عربية، مباشرة، وغير مباشرة.
ولذلك تعززت الموضوعة التي تشدد على الدور العربي في أي قرار فلسطيني يتخذ، ولكن من دون أن يُفهَم بعمق القانون الحاكم لهذه العلاقة.
طبعاً أصحاب هذه الموضوعة عندهم الكثير من الوقائع والأمثلة التي تعززها، وذلك بالاستناد إلى التاريخ الفلسطيني وتجاربه مع الوضع العربي في مختلف مراحله. ولكن لم يلحظوا أن قوة الدول العربية كانت تُضعف الدور الفلسطيني، أما ضعفها فيقوّيه نسبياً.
إن كل تلك الوقائع والأمثلة، وفي كل المراحل السابقة، حدثت في ظل موازين قوى عالمية وإقليمية وعربية اتسمت بهيمنة الغرب بريطانيا، ثم أمريكا، زائد أوروبا، على النظام الدولي والإقليمي والعربي. هذا أولاً. أما ثانياً فقد اتسمت بتفوق عسكري كاسح للكيان الصهيوني على جيوش كل الدول العربية، وقد ترجم ذلك بالحسم من خلال الحرب السريعة.
اتسم الوضع العربي، ولا سيما بعد مرحلة الاستقلال (جامعة عربية من 21 عضواً)، بحالة من التناقضات والتوافقات العربية العربية، ومن خلال دول قطرية قوية مسيطرة على داخلها، وقادرة على الضغط على الفلسطينيين، وعلى التحكم أيضاً. هذا وقد تفاوتت قدرة السيطرة الخارجية من حيث استتباع بعضها، ومحاصرة كل من يعارض وتهديده بالانقلاب أو بحرب من الكيان الصهيوني.
وبهذا لم تكن ثمة قدرة عسكرية لدى أي من الدول العربية في مواجهة حرب مع الكيان الصهيوني حتى بعد احتلال أراضيها، وذلك على الرغم من تجربة حربي الاستنزاف 1969، وتجربة حرب 1973 التي أجهضها السادات بعد خمس سنوات.
يمكن اليوم التأكيد بأدلة قوية متعددة أن معادلة السيطرة الغربية على العالم أخذت تتداعى، ولم تعد بالقوة السابقة كذلك. كما يمكن التأكيد، وبالأدلة الأقوى، أن التفوق العسكري الكاسح للكيان الصهيوني لم يعد كما كان عربياً. فهو أضعف في مواجهة إيران وحزب الله وقطاع غزة، بدليل الانسحاب من جنوب لبنان 2000 وقطاع غزة 2005 بلا قيدٍ أو شرط، والفشل في حروب 2006 (لبنان)، و2009/2008، و2012، و2014 (قطاع غزة).
ثم عدم إقدامه على التعامل مع النووي الإيراني كما تعامل سابقاً مع النووي العراقي، أو التعامل مع البرنامج الصاروخي الباليستي كما تعامل مع ما كان أبسط منه في مصر وسوريا، وقد أحجم الآن لسنوات عن التعامل مع صواريخ حزب الله وصواريخ حماس والجهاد كما تعامل سابقاً مع امتلاك م.ت.ف لصاروخ الكاتيوشا (مداه أقل من 40 كيلومتراً) عام 1982 في لبنان.
أما من الجهة الأخرى، وفي ما يتعلق بالدول العربية فإن تغيّراً كبيراً، سلبياً، بالنسبة إليها، يسود في الوضع العربي الراهن، غير ما كان عليه في السابق. فقد انهار النظام العربي بعد 2003 انهياراً مريعاً.
ثمة إجماع في تقدير الموقف العربي الرسمي الآن بأنه في حالة انهيار، وليس مجرد ضعف، أو القول إنه أضعف ممَّا كان عليه سابقاً.
هذا ما يظهره، بشكل فاضح، حال الجامعة العربية التي تهاوت إلى حضيض. ولأن ثمة شبه إجماع على أن الوضع العربي غاية في الضعف كدول، وقد أصبحت ضعيفة داخلياً، فبعضها هرولت نحو تطبيع مذل، أو أخرى تعاني من مخاطر على وحدتها الداخلية. وقلّ من بقي فيه أمل لحياة.
المهم أن المعادلة العربية الراهنة، في علاقتها بالوضع الفلسطيني، لم تعد قادرة على التحكم به، أو التأثير فيه، بل أصبحت تداريه، وتخشى على نفسها وأوضاعها الداخلية من أي صدام يخوضه الشعب الفلسطيني مع العدو الصهيوني.
ويلحظ أن الموقف الأمريكي الأوروبي يسارع إلى التوسط للتهدئة كلما حدثت مواجهة فلسطينية مع الكيان الصهيوني، الذي أصبح، بدوره، يبحث عن تهدئة مع قطاع غزة، ويسارع إلى التهدئة خوفاً من الانتفاضة، وخوفاً من الحرب في قطاع غزة، كما الخوف من حزب الله ومن إيران (حيث الحرب أخطر بكثير ونتائجها أكبر بكثير).
أما الدول العربية فقد راحت تبتلع أنفاسها ممَّا يمكن أن يحدث من تطوّر مثل تحوّل هبّة باب العامود إلى انتفاضة شعبية شاملة. وإن الدول التي طبّعت، ربما ما عدا حكومة محمد بن زايد المتحالفة مع العدو، تحسب الحساب لما يمكن أن يحدث داخلها إذا ما تكررت مشاهد الانتفاضتين الأولى والثانية وجاءت الثالثة. بكلمة حكومات المتطبعين الهشة ستصبح على كف عفريت.
لهذا ينبغي للفلسطينيين أن يتحرروا من المقولات التي سادت في زمن الحرب الباردة أو ما قبلها، أو في زمن اتفاق أوسلو وما بعده. ومن ثم عليهم أن يتحسسوا جيداً معادلة موازين القوى الجديدة التي تجعل معركة المواجهة بأشكالها كلها، ولا سيما في الانتفاضة الشاملة وفي قطاع غزة، تسمح للشعب الفلسطيني بأن يمسك برقاب الوضع العربي الضعيف، بل برقاب الوضع الغربي المرتبك كله، ليرد لهما "جميلاً" طالما استحقاه.